الأسيــــــر836:
رحلة العودة من الجحيم.....
"إذا لم تستطع أن تقولها فلا يمكن أن تهمس بها"، قولة الفيلسوف لودفيغ فيتغينشتاين.
بقلم: محمد الامين موراد.
وطيلة هذه المدة وإلى حدود سنة 1991 والتي قضيناها بمركز بوكرفة وبالتحديد بمزرعتها التي كنا نعمل بها ، ظلت الوفود الصحفية تتقاطر علينا من كل حدب وصوب ومن مختلف الجنسيات أذكر على سبيل المثال لا الحصر: موريتانيا والجماهيرية الليبية من المغرب العربي ،ومن إفريقيا مالي وغانا والغابون والكونغو برازافيل ، ومن العالم العربي : وفد صحفي من ثورة ظفار بسلطنة عمان ، ومن أمريكا اللاتينية حدث ولا حرج أذكر على سبيل المثال : الأرجنتين ونيكاراغوا وشيلي والبيرو ، ومن أوربا : فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وبالتحديد من إقليم الباسك .
وبسبب الموقف المغربي الرافض لعودتنا سينجح كوادر البوليساريو في استمالة 36 أسيرا مغربيا من أبناء الأقاليم الجنوبية ضمن مجموعة المائتي أسير التي قررت إطلاق سراحها للانضمام لصفوفهم،وقد كانت هذه العملية رسالة مشفرة من أجل استمالة أبناء قبائل تكنة المنخرطين في صفوف القوات المسلحة الملكية تدعوهم من خلالها إلى إعادة النظر في مراهنتهم على المغرب، خاصة إذا ما علمنا أن 36 أسيرا السالفي الذكر ينتمون لقبائل تكنة.
خلال هذه الفترة ستعرف البوليساريو نزيفا داخليا تمثل في إلتحاق العديد من قياداتها وكوادرها السياسية والعسكرية بالمغرب عقب إطلاق الملك الراحل الحسن الثاني لمبادرة العفو السياسي الشامل عن كل من حملوا السلاح ضد وحدة المغرب الترابية بالقول صراحة : "إن الوطن غفور رحيم".
وقد عرفت هذه المرحلة تنامي الشك والريبة في كل المسؤولين والقيادات والمواطنين البسطاء ، وبدأت مشاعر التذمر والتمرد تسود المخيمات بشكل عام.
هذا الوضع السياسي العام المحتقن سيلعب لصالح الأسرى المغاربة ، ذلك أنه إزاء الفراغ الذي ستعرفه مؤسسات البوليساريو سيسيطر الأسرى على جميع مناحي الأنشطة الخدماتية ليتمكنوا من الإطلاع على الكثير من الأسرار الخطيرة التي تهم أجهزة البوليساريو ومؤسساتها وكيفية عملها وعلاقتها بالمخابرات العسكرية الجزائرية، بل أكثر من هذا استطاعوا كسب قلوب سكان المخيمات وتغيير تصوراتهم الخاطئة والتي تمت تعبئتهم بها طيلة سنوات عديدة .
والحق يقال أن موافقة المغرب على وقف إطلاق النار مع البوليساريو وانخراطه في مخطط التسوية الأممي كان له الأثر الكبير في تفجير الوضع السياسي العام بمخيمات لحمادة ، ذلك أنه بعد سنوات من الضغط والقمع السياسي الممنهج من طرف الآلة العسكرية للبوليساريو ضد أي رأي سياسي معارض ، سيعيد الجميع التفكير في حصيلة مشوارهم النضالي داخل هذا التنظيم ليكتشفوا زيف هذه الأطروحة التي أفضت إلى وجود قيادة سياسية فاسدة تتاجر بمعاناة الصحراويين وتخدم الأجندة السياسية لسادتها بالجزائر.
فالوضع الاجتماعي بالبوليساريو كان على الشكل التالي : عائلات غنية أبناؤها يدرسون بإسبانيا والدول الأوربية وعند تخرجهم يشتغلون في وزارة الخارجية وبالتمثيليات السياسية للبوليساريو بالخارج ، وفي المقابل عائلات فقيرة أبناؤها يدرسون بالجزائر وليبيا وكوبا وفي نهاية المطاف يزج بهم إلى أتون الحرب ليكونوا وقودا لها .
أمام هذا الوضع السياسي والاجتماعي المتأزم والمحتقن سيكون الشعار الذي سيرفعه الجميع :"عدل شي لراسك" ، لقد انتهت سنوات النضال والإخلاص للمبادئ والمثل ولقيم الثورة و"لخط الشهيد".
خلال هذه الفترة سيتم نقلنا إلى مدرسة 09 يونيو ، وهي عبارة عن مؤسسة ضخمة للتعليم الثانوي يديرها مصطفى سيد البشير ابن النائب البرلماني لمدينة السمارة سابقا السيد محمد عالي سيد البشير ، حيث سنتمتع بنوع من الحرية في ظل ظروف اعتقال مخففة .
وسيعطي الأسرى المغاربة القدوة في رسالة المغرب الحضارية القائمة على البناء والتشييد ،حيث قمنا بترميم المدرسة التي كانت تعاني من تلف الكثير من مرافقها بسبب الأمطار ، كما قمنا بإنشاء مزرعة فلاحية من العدم على مساحة تقدر بالكيلومتر مربع وفي وسط الصحراء ، لنثبت لسجانينا بأنا أصحاب رسالة ومشروع حضاري نبيل يروم البناء والحياة.
وسأتمكن في هذه الفترة من التعرف على زوجة وزير خارجية البوليساريو محمد سالم ولد السالك المغربية الأصل والتي تنحدر من مدينة مكناس ، حيث كانت تسكن بجانب المدرسة ومعها أبناؤها الاثنان اللذين كانا مصابين بشكل دوري بمرض اللوزتين ، وكان يطلب مني مدير المزرعة ماء العينين ولد الزاوي ،وهو ابن أحد شيوخ ووجهاء قبيلة الركيبات فخذ سلام وأحد سكان مدينة طانطان السيد أحمد عمر، أن أقدم لهم العلاج اللازم من خلال الحقن بالمضادات الحيوية.
وقد عبرت لي زوجة وزير الخارجية عن حنينها للعودة إلى المغرب ، وأنها تعاني من الوحدة والوحشة القاتلة وخاصة عندما تخلو المدرسة من القائمين فيها عقب العطل المدرسية ، وكم كانت تبكي الليالي الطوال عندما تتحدث في الهاتف مع أهلها في مدينة مكناس فهي تتكلم بالحسانية وأهلها يتكلمون باللغة الدارجة ، وأنها ملت النظر إلى هذه القفار الموحشة والانتظار الطويل للاستقلال الموعود من طرف قيادة البوليساريو والذي قد يأتي وأغلب الظن أنه لن يأتي.......
وفي شهر أكتوبر من سنة 1991 سيقوم بزيارتنا السيد محمد عبد العزيز والذي اصطحبني معه في سيارته الخاصة وأجلسني بالكرسي الأمامي معه ، وقد تجاذبنا أطراف الحديث والذي كان حميما ووديا ، حيث قال لي بالحرف الواحد: " أنظر إلى حالك لقد تقدمت بك سنوات العمر واشتعل رأسك شيبا ، لأجل من تضحي ؟ وهل هناك في المغرب من يقدر تضحيتك ؟ الإنسان الذكي هو من ينظر إلى مصلحته الشخصية، في المغرب لا شيء مضمون لأمثالك ، تعال انضم إلينا فمكانك محفوظ وقدرك مضمون لدينا ".
فما كان مني إلا أن أجبته بشكل دبلوماسي بأني "رجل تقدم به العمر ولم يعد لي من طموح في هذه الحياة سوى رؤية عائلتي والتمتع بأنسهم لما بقي لي من عمر ".
وبعد ما يقارب الساعتين وصلنا إلى مزرعة النخيلة للدواجن والتي تقع بين الرابوني و تيندوف ، حيث تناولنا وجبة الغذاء هناك بصحبة عدد من المسؤولين والإطارات كان من بينهم مدير المزرعة السيد يسلم ولد الميلس وهو أحد أبناء قبيلة الركيبات لعيايشة وهو شخص طيب ذو أخلاق سمحة.
خلال زيارتنا هذه وأثناء تجوال محمد عبد العزيز بالمزرعة المذكورة ستعترض سبيله مجموعة من الأسرى المغاربة حاول أحد الحراس صدهم لكن هذا الأخير نهره ، وقد اشتكى هؤلاء الأسرى له سوء أحوالهم المعيشية وطلبوا منه أن يوفر لهم جهاز تلفاز ، فما كان منه إلا أن أعطى أوامره بأن يتم تحسين ظروفهم المعيشية وأن يوضع رهن إشارتهم جهاز تلفاز لمشاهدة الأخبار، بل أمر بإعطاء جهاز مذياع لأحد الأسرى المغاربة الذين كانت تربطه به علاقة خاصة وهو الأسير النويجح عبد الله من الفوج الأول للمشاة والذي كان حلاقه الخاص.
وبعد صلاة العصر اصطحبني معه إلى مقر القيادة العامة للبوليساريو بالرابوني والذي لا يبعد سوى 500 متر عن مركز للاتصالات اللاسلكية العسكرية للجزائر، وهو عبارة عن خلية إتصال وتجسس تضم 30 فردا من الجيش الجزائري تحت إمرة ضابط برتبة نقيب .
وأثناء تواجدي بمقر القيادة المذكور سألتقي بالسيد اسويلم ولد أحمد ابراهيم ، والذي رافقنا في وقت لاحق من مساء هذه الليلة إلى مخيم السمارة حيث خيمة المرحوم :الشيخ لكبير وهو أحد أعيان ووجهاء قبيلة الشيخ ماء العينين وأحد رموز وشخصيات الثورة لدى البوليساريو والتي كانت تقام بها مراسيم تأبين هذا الأخير والذي وافته المنية بإسبانيا.
وبعد انتهاء هذه المراسيم سأبيت ليلتي هذه بالخيمة المجاورة لخيمة محمد عبد العزيز بمخيم 27 فبراير،وهي خيمة السيد مولاي عباس الذي التحق بأرض الوطن في وقت لاحق حيث استقبلتني زوجته عزيزة بنت محمد بدا بحفاوة منقطعة النظير ، وظلت ليلتها تلك تدعوني للانضمام للبوليساريو.
وفي حدود الساعة التاسعة صباحا من اليوم الموالي جاءني مبعوث من محمد عبد العزيز يسألني إذا ما كنت أنوي البقاء أو أرغب في العودة إلى رفاقي ، فكان جوابي أنني أرغب في العودة إلى رفاقي , وبعد لحظات جاءتني خديجة حمدي زوجة محمد عبد العزيز وسلمت علي وقدمت لي بعض الثياب الجديدة وقطع من الصابون وقارورة عطر ومشت معي مسافة 100 متر إلى أن ركبت السيارة التي ستعيدني إلى رفاقي في الأسر.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق